مقاومة الجفاء
د. عبد الكريم بكار
ربما كان
(الابتلاء) هو الشيء الأكثر حضوراً في حياة البشر؛ فنحن مبتلون في علاقتنا
مع أنفسنا وفي علاقتنا مع غيرنا، كما أننا مبتلون في كل أحوالنا مهما كانت
مقبلة أو مدبرة رخيّة أو شديدة... ومن الواضح أن الإنسان ذو طبيعة معقَّدة
ومركَّبة، وهذا يسمح له بالتأرجح بين أعلى درجات السمو وأدنى درجات
الانحطاط، وذلك التركيب يتجسد في كثير من المواقف والعلاقات؛ فنحن نأنس
بوجود الآخرين، ولا نتصور الأفراح الكبرى من غيرهم، لكننا أيضاً نخاف
منهم، ونشعر أنه لا يستطيع أحد أن يسعدنا ويُزعجنا أكثر من الناس الذين
يحيطون بنا من الأقرباء والزملاء والأصدقاء. إنهم مصدر سعادتنا وشقائنا في
آن واحد!
هذه الوصفية أيقظت الوعي البشري من سباته، وجعلته حساساً
جداً نحو التراجعات الأخلاقية على نحو خاص، وإذا رجعنا إلى أدبيات الأمم
والشعوب فإننا نجد أنها على مدار التاريخ تحث على المراعاة والنعومة في
التصرف، كما أنها تحث على خُلُق الإحسان والتضحية والبذل غير المشروط، في
الوقت الذي تحذر فيه من الجفاء والغلظة والعدوان والظلم والكبر والتجاهل..
كلما أوغل الناس في الحضارة، وذاقوا الرفاهية صارت معرفتهم بمصالحهم
الخاصة أعظم، وصار حرصهم على رعايتها وحمايتها أشد، وهذا يُشعل روح
التنافس على موارد هي في الأصل محدودة، ومع التنافس يظهر الكثير من السوء
الكامن في نفوس البشر. و إن (العولمة) التي تجتاح العالم اليوم تؤكد على
معنى النفوذ والتمدّد، كما أنها تؤكد على أهمية المتع الشخصية والمسرَّات
الخاصة، و تهمل الحديث عن كل القيم والمبادئ التي تخفف من الصدام بين
الناس، وتجعل علاقاتهم ندية ولطيفة، فهي لا تتحدث عن الرحمة أو التسامح أو
التضحية أو البر أو التساهل في المعاملة... وقد بدأنا نرى آثار أدبيات
العولمة في تصرفات كثير من الشباب؛ إذ تشعر أن الواحد فيهم لا ينتمي إلى
أسرة ولا إلى دين ولا إلى وطن، إنه مشغول بالبحث عن أشياء يظن أنها توفر
له اللذة والسعادة، ولا يبالي إن كانت تلك الأشياء سوف تسبب الأذى لكثير
من الناس!
يتم كل هذا في الوقت الذي يزيد فيه الناس في مستوى ما
يتوقعونه من بعضهم من التفهم واللطف والتأنق في التعامل؛ لأن التقدم
الحضاري يرفع مستوى الطموحات في كل شيء.
وقد أخبرني أحد الأطباء أنه
منزعج غاية الانزعاج من طريقة قيادة الناس لسياراتهم في البلد الذي يعمل
فيه، وأن ذلك يُسبِّب له الكثير من الأذى والاستفزاز، وقد سمعت أنه انتقل
من ذلك البلد إلى بلد آخر بسبب ذلك.
إن الآداب الشرعية أكّدت على نحو
واسع جداً على التخلق بالأخلاق الحسنة في تعامل الناس مع بعضهم البعض،
ورتَّب الشارع الحكيم على السلوكيات الفاضلة أعظم الأجر والثواب، وما زال
أهل التدين والالتزام يتفاعلون مع تعاليم الشريعة الغرّاء، ويهتدون
بهديها، لكنْ هناك أمران:
الأول: هو أن استيعاب الناس للآداب الشرعية
متباين تبايناً كبيراً، كما أن امتثالهم لما استوعبوه والتزامهم بتنفيذه
أيضاً متفاوت تفاوتاً كبيراً، وعلى سبيل المثال فإن نسبة المصلين في بعض
المجتمعات الإسلامية لا تتجاوز الثلاثين في المائة، وإن من فرّط بأداء هذه
الفريضة العظيمة لن يمتثل لما دونها مما هو معدود في الآداب والفضائل.
الثاني:
هو أن من تصرفات الناس ما هو جزئي وتفصيلي جداً، ولهذا فإننا لا نجد بشأنه
أحكاماً أو توجيهات محددة، وإنما هناك توجيهات عامة، وهذا يجعل الناس
يتراخون في شأنه، ولا يبالون به. ومن هنا فإن الناس لجؤوا إلى تأسيس أعراق
حسنة تقوم على المروءة، والشهامة، والرجولة، والنبل، والكياسة، والأصالة،
والتضحية، وتركوا للمجتمع أمر تطويرها، والرقابة على الالتزام بها،
ومعاقبة من يتهاون بشأنها. ويبدو أن غموض ما يُراد عند إطلاق لفظ مثل
(المروءة) أوجد نوعاً من الارتباك في التعامل معه، وحين يكون الارتباك
يكثر التساهل والتحلل من الالتزام، وهذا ما جرى ويجري اليوم. ويذكرون في
هذا السياق عن ابن عمر –رضي الله عنهما_ أنه قال: ما حمل الرجال حملاً
أثقل من المروءة، فقال له أصحابه: أصلحك الله، صفْ لنا المروءة. فقال: ما
لذلك عندي حد _أي تعريف_ أعرفه، فألح عليه رجل منهم، فقال: ما أدري ما
أقول إلاّ أني ما استحييت من شيء علانية إلاّ استحييت منه سراً". هذا
والله قمة الأصالة وقمة المروءة؛ لأن المجتمعات الضيقة والصغيرة تضغط بقوة
على أبنائها وتقيّد إيقاع حركتهم، وهذا يدفع كثيرين منهم إلى أن يكون له
سلوكان، خيرُهما ما يظهر للناس، وفي هذا من الرياء، وضعف النفس، وانقسام
الشخصية ما لا يخفى. إن تعاليم الإسلام تشير إلى أن الجفاء مع الناس هو
جفاء مع أعماق الذات، كما أن مجافاة الذات لا بد أن تظهر في خشونة التعامل
مع الناس.
لا بد من مقاومة كل منهما حتى لا نمضي في طريق التدهور والانحطاط.